عودة عباس الغول
20/03/2006
وفجأة، وكما النار تسري في الهشيم، عم بين الأهالي نبـأ مفاده أن "عباس الغول" قد عاد ثانية من بعد طول غياب... عاد الرجل الذي روع أرجاء القرية وبث الرعب في كل شبر من أرجائها وعاث فيها فسادا طولا وعرضا... شوهد على حين غرة صبيحة يوم هادئ مشرق من طرف مجموعة من الرعاة وهو يزحف صعودا في اتجاه البلدة الجاثمة على التل الشامخ....
ثلة من الناس لم تصدق ما ترامى إلى مسامعها مما تداولته الألسن وتصدت للشائعة وعدت ذلك من قبيل الهراء والقيل والقال، وطرف ثان تأرجح اعتقاده بين الشك واليقين وخلص في النهاية إلى أن الرجل وإن عاد فلن يقوى على ذبح دجاجة أو ما دونها، بل لن تقوم له قائمة بعد كل هذه السنوات الطويلة من الأشغال الشاقة في غياهب الأسر...
أما الذين صدقوا الخبر، وهم معظم الناس، وبخاصة منهم أولئك الذين انطبعت بذاكرتهم ولا تزال بصمات من ماض أسود لطخت صفحاته أعمال من النهب والسلب والترهيب، فقد استبد بهم هلع عظيم وتساءلوا في حيرة كبيرة: من سيكون الضحية يا ترى؟...
على إثر ذلك هب منهم من كان على مشارف البلدة أو خارجها في انشغال أو لحاجة خاصة، مسرعا إلى بيته مخافة أن يلحق بأهله أو عياله شر أو مكروه...
وكان ممن حمل الخبر محمل الجد شيخ القبيلة وأعوانه، حيث عمد على الفور إلى إبلاغ المسئولين وأصدر أوامره للساكنة بالتحصن داخل بيوتاتهم وألا يفتحوا أبوابها لأي طارق أو زائر أو عابر سبيل مهما يكن حتى إشعار آخر.
ما أن توسط "عباس الغول" القرية واحتواه الطريق العام حتى تعلقت به الأنظار ترمقه عن كثب من خلال فتحات الأبواب والشبابيك وشقوق الحيطان ومن فوق السطوح والشرفات.. الذين لم يعايشوا كل مآسي وهموم أهل البلد من الوافدين والغرباء وصغار السن، تسمرت أحداقهم بالمشهد جاحظة ومتفحصة تحاول استجلاء حقيقة ما ستسفر عنه عودة الرجل الذي ما فتئت أعماله "البطولية "صدى لتخاريف وحكايات ترن في أذهانهم بعد أن تناقلتها الشفاه وذاع صيتها خارج تخوم القرية. أما البقية من الأهالي فقد سرت في أوصالهم بقايا من رعب قديم، وكان أغلب الظن عندهم أن الكارثة واقعة لا محالة...
الرجل قوي البنية، مديد القامة، رأس ضخم نبت فيه شعر أسود تخالطه شدة بياض. يحمل وجها عريضا صارما غزته التجاعيد وشوهت معالمه بعض الندوب.. شارب كث ولحية غبرة كثيفة لم تحلق منذ مدة. العينان جاحظتان يشع منهما بريق مثير. الجسد ملفوف في رداء متسخ بني اللون.. بعض الذين انخرطوا معه في سلك الجندية، من شباب البلدة، يذكرون عنه أنه كان مثالا للشجاعة والمغامرة وركوب المخاطر، إلا أنه ما لبث أن فصل عن الخدمة بسبب سلوكه العدائي وتطاوله على رؤسائه...
الذين يعرفونه تمام المعرفة أدركوا، ولأول وهلة، إنه وبالرغم مما يثيره مظهره من إرباك للنفوس، إلا أنه ما عاد يحتفظ بمواصفاته المعهودة.. تأكد لهم أنه فقد بعضا من قواه الجسدية وربما النفسية أو حتى العقلية.. من يدري؟ يدل على ذلك انحسار في نظراته الشرسة وتثاقل في خطواته الحثيثة وتراجع عن اندفاعه الوحشي.. كما زاد من البرهنة على صحة اعتقادهم هدا أن الرجل لم يهاجم حيوانا ولم يقطع شجرة ولم يطرق بابا ولم يقتحم مسكنا ولم تصدر منه كلمة أو صراخ أو إزعاج، كما كان ذلك دأبه في عهد سابق.. ومع ذلك لم يجرؤ أحد على أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام أو على أن يبدي أدنى حركة. لقد توجس الجميع منه خيفة وأنفاسهم تلهث وتلهث...
الصغار تمسكوا بتلابيب أمهاتهم وارتموا بين أحضانهن يلتمسون الحماية وفرائصهم ترتعش مثل الريشة في مهب الريح وأسنانهم تصطك.. يعمدون إلى ذلك في براءة تامة غير واعين بما يدور حولهم من ألغاز.. لا يفهمون من عالم الكبار إلا أن الغول جاء ليختطفهم إلى خلوته هناك بعيدا.. إلى ما وراء التل الشامخ... النساء يركن إلى مجلسهن ينتحبن بهدوء وبأصوات خافتة ولاذ الحوامل منهن بأوكارهن يدارين ما في بطونهن وقد أمسكن جميعهن برؤوسهن ودوى في غور صدورهن خفقان مرعب.. الشيوخ وكبار السن يمسدون لحاهم وقد غشيتهم سحابة صمت رهيب. يستدرون من ربهم اللطف والسلامة وشبح الأمس المرير يربض أمام أعينهم...
يندفع "عباس الغول" في طريقه متعثر الخطى مثل المكبول، غير آبه بالعيون التي كانت تترصده من كل الجهات، بعد أن تحسس وجودها بذكائه الثاقب.. يتوقف بين حين وآخر لبرهة قصيرة.. يلجأ إلى ذلك ربما لالتقاط أنفاسه بعد أن أضناه المشي لمسافات طويلة وكلت قدماه، أو تحسبا لخطر محدق يتوقعه في دروب ومسالك خلت من أهلها أو لأمر ما يتدبره هو بالذات...
على مقربة من مسجد القرية العتيق، توقف فجأة جامدا مثل التمثال وبدا غارقا في تأملاته يستطلع البناية الطينية ذات البوابة الخشبية المقوسة، كأنما يراها لأول مرة.. لا ريب أن هناك شيئا ما يدور بمخيلته.. لم يساور المترصدين شك في أنه إنما توقف ليستعيد شريط أحداث الأمس الأسود عندما هشم لآخر مرة وجه امرأة وسرق حليها ومجوهراتها وفر هاربا. وبعد أن سدت في وجهه المنافذ استغل قداسة المكان محتميا بداخله.. لكن المطاردين كانوا له بالمرصاد بعد أن فطنوا لنواياه.. أمسكوه وأحكموا وثاقه وانهالوا عليه ضربا ورفسا وتركوه يتلوى كالأفعى المكلومة بين الحياة والموت ليحمل إلى مستشفى المدينة وليحال بعد ذلك على القضاء...
استدار إلى الخلف ثم عن يمينه ويساره، كما لو أنه يروم إلى التأكد من أن لا أحد يطارده، بعدها اندفع إلى فناء المسجد لينتحي ناحية بداخله.. كان خاليا من المتعبدين، فقد كان الوقت وقت ضحى.. تهاوى بجسده المنهوك على الأرض وتمدد على حصير بالٍ.. جال بنظراته التائهة في أرجاء المكان.. تصبب عرقا.. ارتعشت شفتاه ولاحت على جبينه الملتهب أسارير ابتسامة باهتة ثم أغمض جفنيه في هدوء... أثار ذلك استغراب الساكنة.. لم يكن أحد يتصور أن يلوذ الرجل بالمكان الذي كاد أن يشهد فيه مصرعه إلى حد تساءل فيه معظمهم: أليس بالإمكان أن يكون الرجل قد عاد إلى رشده وتاب إلى ربه توبة نصوحا؟ غير أن الظنون لم تكن صادقة وكان الواقع شيئا آخر غير الذي تبادر إلى العقول، فقد مر حين من الوقت وقف الجميع بعده في ذهول متسمري الأقدام، شاخصي الأبصار، على مقربة من "عباس الغول" الذي أسلم الروح لباريها واستحال إلى جثة هامدة...